«اقتصاد الجنس».. كيف يشكل الاقتصاد قصص حبنا دون أن ندري

في البداية، يجب أن نُحذرك عزيزي القارئ، لأن هذا التقرير ليس رومانسيًا ألبتة، بل هو على العكس من ذلك. فما تعتقده أنت حبًا، قد يراه بعض خبراء الاقتصاد لا يختلف كثيرًا عن قانون العرض والطلب الذي يحكم الأسواق؛ هكذا يمكن لسعر الدولار العالمي أن يتحكم في حب حياتك، بحسبهم. فكيف يصنع الاقتصاد قراراتنا الشخصية ويحسم اختياراتنا واتجاهات القلب دون أن نعي ذلك، فيما يعرف باسم «اقتصاد الجنس»؟
نظرية «الاقتصاد الجنسي».. التنافس من أجل الفوز بالشريك المثالي
في علم النفس تعتمد نظرية «الجنس» في الأساس على مجالين آخرين، هما علم الأحياء وتحديدًا مجال علم النفس التطوري والعلوم السياسية، إذ تقترض من علم النفس التطوري الرغبة في الإنجاب، وبالتالي استمرار النوع بنجاح من خلال التنافس على جودة النسل، أما العلوم السياسية فتحلل السلوك الجنسي باعتباره يعكس سياسة النوع الاجتماعي، وتستطيع أن تجد مثالًا على ذلك في التحليلات النسوية التي تبرز هيمنة الرجال وإيذاء النساء. إلا أن تحليل السلوك الجنسي قد تغير منذ عام 2004، عندما حاول الباحثون توسيع القاعدة الفكرية لنظرية الجنسانية لتشمل مجال الاقتصاد أيضًا.
«المال والجنس»، وعلاقتهما الشائكة ببعض أصبح موضوع الكثير من الدراسات، فيما عُرف باسم نظرية «الاقتصاد الجنسي»، وتفترض نظرية الاقتصاد الجنسي أن النشاط الجنسي الأنثوي يأتي في سياق قيمة تبادلية، أي خاضعة للمقايضة مقابل أشياء أخرى، في حين أن النشاط الجنسي الذكوري ليس كذلك. يبدأ ذلك من خلال العُرف الاجتماعي السائد والذي يفترض أن «الجنس» شيء تمتلكه الإناث ويريده الذكور، وبالتالي فالمرأة تبعًا لتلك النظرية تتمتع بموقف قوة وسيطرة، لأنها تملك «سلعة» مرغوبة.
«تتنافس النساء على الجاذبية الجنسية، والوعد بالتفرد (الإخلاص)، بهدف الحصول على رجل يوفر الموارد المادية. على الجانب الآخر، يتنافس الرجال على الموارد المادية، بهدف الحصول على شريك جنسي مناسب».
في ورقة بحثية نشرت منتصف 2017 بعنوان «التنافس على الحب: تطبيق نظرية الاقتصاد الجنسي على الزواج»، رأى الباحثون الطريقة التي نختار بها شركاء الحياة من وجهة نظر اقتصادية هي منافسة، صفقة تكون فيها المرأة هي البائع، والرجل هو المشتري. رغم ذلك، فإن التنافس الرئيس لا يكون بين الرجل والمرأة، بل بين الأفراد من نفس الجنس؛ إذ يتنافس البائعون مع البائعين الآخرين، والمشترون مع المشترين. وغالبًا ما يكون الهدف هو إعادة إنتاج نسل ذي جودة عالية.
(فيديو توضيحي عن نظرية اقتصاد الجنس)
بحسب الورقة، تستند نظرية «الاقتصاد الجنسي» على المعايير الرئيسة للأسواق التجارية، إذ تحكم العلاقات فيها قوانين العرض والطلب. فعندما يتجاوز الطلب العرض، ترتفع الأسعار لصالح البائعين (النساء)، أما عندما يتجاوز العرض الطلب تنخفض الأسعار لصالح الرجال. بالرغم من ذلك لا تتعلق نظرية الاقتصاد الجنسي بتبادل الأموال مقابل الجنس، كما في «الدعارة» – التي يمكن اعتبارها مثالًا كأحد الأوجه المباشرة لهذه النظرية – بل بمقايضة مجموعة من «السلع» القيمة مقابل الجنس؛ ومنها مثلًا أن تحصل المرأة على الاهتمام أو الحب أو الالتزام من قبل الشريك، كما يشمل ذلك أيضًا توفير الحماية أو الخدمات المادية. كل فرد بحسب تفضيلاته، أما الرجال فيعملون على إشباع احتياجات النساء السابقة بهدف «التفرد»، وهو حصرية الوصول إلى جنسانية هذه المرأة، فيما يعرف بالإخلاص.
ففي الوقت الذي يختار الرجل المرأة على أساس جاذبيتها الجنسية وإلى أي مدى يتوقع أن يستمتع بالجنس معها، تختار المرأة الرجل على أساس الفوائد غير الجنسية التي يمكن أن يقدمها لها، وهو ما يحدد بحسب النظرية، طبيعة التنافس بين أفراد النوع الواحد؛ إذ تخلق تلك الحاجة تنافس النساء بين بعضهم البعض على الجاذبية الجنسية من أجل جذب الرجال من ذوي الإمكانات العالية. في حين يتنافس الرجال من أجل إثقال مواردهم لجذب أفضل الشركاء الجنسيين.
كيف يرى الاقتصاد مؤسسة «الزواج»؟
«أنت أفضل خيار تمكن شريكك من الحصول عليه للوقت الحالي، لأنه ليس جذابًا بما يكفي ليستقر مع شريك أفضل».
هل فكرت من قبل في «الزواج» كيف يبدو من وجهة نظر اقتصادية؟ فإدارة الأسرة لا تختلف كثيرًا عن إدارة الشركات من وجهة نظر هذا المبحث الجديد، كلاهما له متطلبات يجب أن تُلبى. وكما هم شركاء العمل، نجد شركاء الزواج يتمتعان بمهاراتٍ تكميلية تسمح لهما بتلبية متطلبات الأسرة بشكلٍ أفضل؛ وهو ما يعطي للزواج طابعًا تجاريًا، فمن خلال تقسيم المهام بما يتناسب مع مهارة وقدرة كل شريك، يمكن إدارة الأسرة بنجاح، وهو ما ينطبق من وجهة نظر اقتصادية على الجنس أيضًا؛ إذ يمكن اعتبار الجنس سلعة أو خدمة، يقدمها الزواج بشكلٍ أكثر كفاءة، فتصبح أكثر أمانًا عن سوق الجنس خارج إطار شرعي، ويجري تقديمها بطريقة خالية من العنف والإذلال وشبح «الأمراض المنقولة جنسيًا».
في كتابها «الدولارات والجنس»، تنقل الخبيرة الاقتصادية مارينا آدشادي نظريات الاقتصاد إلى عالم الحب من خلال تطبيق مبادئ السوق والعرض والطلب، على مسائل الزواج والمغازلة والألفة والجنس. مُشيرة إلى أن كل قرار نتخذه في الحياة، إذا قمنا بتحليله من منظورٍ اقتصادي، سنتفاجأ بالنتيجة. إذ تخضع تفضيلاتنا الشخصية وأفكارنا وأفعالنا، بحسب آشادي، إلى القوى الاقتصادية ومستويات الدخل والطبقة الاجتماعية والمعتقدات الدينية والسياسية. العالم والاقتصاد منذ 5 سنوات واشنطن بوست: الفتور الجنسي في اليابان يهدد الاقتصاد العالمي
تشير أدشادي إلى أن الأشخاص لا يقابلون بعضهم البعض بطريقة عشوائية كما نعتقد، بل هناك بعض المعايير التي تتحكم في تقاطع أقدار البشر مع بعضهم البعض. كانت أدشادي قد أطلقت دورة تدريبية عام 2008 بجامعة دالهاوسي في كندا، وذلك من أجل إثارة حماسة طلابها لتعلم الاقتصاد، كانت الدورة بعنوان «اقتصاديات الجنس والحب»، حينها لم يكن هذا المجال مطروقًا بعد، مما جعلها تلملم الأوراق البحثية من هنا وهناك لعمل مادة دراسية صالحة للدورة التدريبية. كان هذا هو ما دفع مارينا أدشادي فيما بعد لجمع تلك المادة في كتابها، ليصبح اليوم أحد أهم المصادر في هذا المجال.
العرض والطلب مرة أخرى.. المستوى التعليمي والجنس
بحسب الخبيرة الاقتصادية، يعد المستوى التعليمي هو أحد أهم العوامل التي تحدد خياراتنا العاطفية في العصر الحالي؛ إذ كانت معدلات تعليم النساء أكثر من ذي قبل؛ وفي دول الغرب على سبيل المثال، قلت معدلات التعليم الجامعي للرجال في الوقت ذاته، نتيجة لتفضيل الكثير من الرجال للعمل بعد الدراسة الثانوية، وهو ما يجبر النساء على تقديم تنازلات فيما يخص المستوى التعليمي للشريك، وهو ما يمكن أن نحلله من خلال قوانين السوق عندما يتجاوز العرض الطلب، فتقول آدشادي: «يؤثر المستوى التعليمي الأعلى للمرأة على سوق الزواج؛ فنجد أن كثير من النساء يخترن رجالًا ذوي مستوى تعليمي أقل أو أصغر سنًا».
كانت النتيجة، ارتفاع مستوى أجور النساء عن الرجال في تلك الأسر؛ وهو ما تبعه أن أصبح الرجال أكثر قابلية للمشاركة في الأعباء المنزلية وتربية الأطفال عن ذي قبل، وبذلك أصبح للاقتصاد ومستوى الدخل تأثير مباشر على توزيع المهام والمسؤوليات داخل الأسرة.

كما يلعب الاقتصاد والتعليم دورًا هامًا في الزواج وتحديد الأدوار والمهام داخل الأسرة، فإنهما يلعبان دورًا أيضًا في معدلات الطلاق، إذ تشير أدشادي إلى أن نسب الطلاق بين الحاصلين على درجات علمية عالية في الدراسات العليا تق حتى تكاد تنعدم، فتصل إلى 3%، فيما مقابل 16% بين هؤلاء ممن اكتفوا بتعليمهم الثانوي، وهو أمر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاقتصاد؛ إذ إن التعليم الأفضل يترتب عليه مستوى دخل أعلى، وهو ما يرجح استمرار الزواج أكثر من علاقة يعاني شركائها من ضوائق مالية.
تقول آدشادي: «عندما تعاني الأسرة من ضائقة مالية فإنها تتعرض إلى خطر الإفلاس، مما يزيد من التوتر بين الطرفين إلى درجة قد يتفكك معها الزواج». إذ تقترن الضوائق المالية عادةً بنظراتٍ فضولية إلى من هم أفضل حالًا وقادرين على شراء أفضل الثياب وقيادة أفضل السيارات والسكن الفخم. تضيف أدشادي: «بعبارة أخرى، نظرًا لأن شريحة مختارة من المجتمع تجني ثمار الكسب المالي؛ فإن من هم أقل حظًا من الناحية المالية يعانون».
هشاشة «زواج» الطبقة العاملة
في دراسة نشرت عام 2017 بمعهد الدراسات الأسرية «Institute of Family Studies»، يشير الباحثون إلى أن الزيجات داخل الطبقات العليا في الولايات المتحدة الأمريكية تتمتع بشراكة أكثر صلابة واستقرار من تلك التي تنتج عن زيجات «الطبقة العاملة». يربط الباحثون هذا الأمر بما ينتج عن زيجات الطبقة العليا من فوائد اقتصادية واجتماعية تجعل الطرفين أكثر استقرارًا بحسب الدراسة، في مقابل هشاشة علاقات الزواج في الطبقات الأدنى والتي ترتبط بمعدلات الفقر وعدم الاستقرار الاقتصادي.
كانت الولايات المتحدة هي المادة موضوع البحث؛ إذ جرى مقارنة العلاقات الزوجية في سبعينات القرن الماضي، بتلك التي نشهدها في العقد الحالي بعد مرور أكثر من خمسين عامًا. عن ذلك يقول الباحثون أن عصر ما قبل السبعينات لم يشهد مثل تلك الانقسامات الطبقية الكبيرة في الأسر الأمريكية؛ إذ اختلط أغلب الأمريكيين ببعضهن البعض، وكونوا زيجات مستقرة استمرت لفترات طويلة من الزمن؛ وذلك على عكس العقود التي تلت ذلك؛ إذ نتج عن عدم الاستقرار الاقتصادي تلك الانقسامات الطبقية والتي أدت إلى الكثير من حالات الطلاق.
أدى الانفتاح الجنسي وعدم الاستقرار الاقتصادي – بحسب الباحثين – إلى أن الأمريكيين من الطبقة العاملة أصبحوا أقل إقبالًا على الزواج، وشهد العصر الحالي تغير في تركيبة الأسرة الأمريكية؛ فلم تعد هي الصورة النموذجية عن أسرة مكونة من والدين ومنزل مستقر؛ بل انتشرت ظواهر مثل الإنجاب خارج الإطار الشرعي، واستبدال الزواج بالمعاشرة.
عن ذلك يشير الباحثون إلى أن غالبية الأمريكيين من الطبقات العليا والمتوسطة متزوجين، وذلك في مقابل أقلية من الطبقة العاملة، إذ يفضل أبناء الطبقات الدنيا استبدال الزواج بالمعاشرة؛ وهو ما يوضح تأثير الطبقة الاجتماعية على شكل وتركيبة الأسر الحديثة؛ فستة من كل 10 أمريكيين فقراء هم عازبون – بحسب الدراسة – وذلك نتيجة لأنهم الأكثر فقرًا والأقل تعليمًا.
لهذه الأسباب الاقتصادية أصبحت الممارسات الجنسية أكثر ليبرالية
قبل قرن من الزمان، كان هناك ما يشبه الاتفاق الضمني بين النساء، والذي كان يتضمن الامتناع تمامًا عن ممارسة الجنس قبل الزواج؛ وهو الأمر الذي تغير – خاصةً في الغرب – خلال السنوات الفائتة؛ إذ لم يعد الجنس خارج مؤسسة الزواج أمرًا موصومًا اجتماعيًا. فما الذي تغير حقًا في 100 عام؟
(بين النسوية ونظرية اقتصاد الجنس)
عن ذلك تقول مارينا أدشادي: «تاريخيًا؛ حافظت النساء على أعلى سعر للجنس من خلال الامتناع الجماعي عن ممارسة الجنس حتى الزواج، إذ كان الحمل خارج نطاق الزواج له كلفة عالية بالنسبة إلى النساء». كان هذا بالطبع قبل أن تصبح «وسائل منع الحمل» أكثر فاعلية، وقبل أن تتمكن النساء من الاستقلال المادي وإعالة أنفسهن دون الحاجة للرجل.
في عام 1925 على سبيل المثال، كانت فرص الحمل للمرأة غير المتزوجة تعادل 85% في حال مارست الجنس، كما كان الحمل دون زواج يعني فقدان المرأة لفرصها الجيدة في الزواج أو الوظيفة؛ وهو ما جعل كلفة ممارسة الجنس دون إطار شرعي عالية، وجعل الجنس حينها فعلًا حصريًا داخل مؤسسة الزواج.
كل هذا قد تغير بعد «الثورة الجنسية» في سبعينات القرن الماضي والتي كانت بمثابة تغيير لمسار السوق؛ وبمجرد أن منحت النساء فرصًا للتعليم والثروة، لم يعد يتعين عليهن احتجاز الجنس كرهائن؛ بحسب الباحثين روي بوميستر وكاثلين فوس. في الوقت ذاته أصبحت موانع الحمل متاحة للجميع؛ إذ صارت النساء أكثر جرأة من ذي قبل في عرض «الجنس» خارج مؤسسة الزواج؛ كما حقق لها الاستقلال المادي في العصر الحالي إمكانية أن تعيل طفل وحدها إن أرادت الإنجاب، أو التخلص منه إن ساءت الأمور بـ«حمل غير مرغوب فيه».
ساهمت كل هذه التغيرات في تبديل قواعد لُعبة الزواج خلال القرن الماضي؛ إذ مكنت النساء – خاصةً في الغرب – من استعراض جنسانيتهن دون التعرض للوصم المجتمعي، فأصبحت النساء أكثر تحررًا وأكثر قدرة على التعامل مع الصعاب التي غالبًا ما تصاحب الحمل غير المتوقع. وهو أمر مرتبط بـ«المال» في المقام الأول، وتؤثر عليه العوامل الاقتصادية.
عن ذلك تقول آدشادي: «مثل هذه التغييرات تحدث بشكلٍ تدريجي. يبدأ أفراد المناطق الليبرالية أولًا بممارسة الجنس دون زواج بلا وصم مجتمعي، ومن ثم يتبعهم هؤلاء ممن يعيشون في مناطق أكثر تحفظًا؛ إذ يتخلصون مع الوقت من مخاوفهم تجاه آراء الآخرين، ويسود الموقف الأكثر ليبرالية». جنسانية منذ 9 شهور ينهار الاقتصاد فتزدهر «الدعارة».. ماذا لو حكى الجنس قصة الكساد الكبير في أمريكا؟
على الرغم من ذلك، فإن النظرية الاقتصادية بحسب الباحثين لا يمكنها تفسير سلوك كل فرد بالمجتمع، إلا أنها بالرغم من ذلك تفسر سلوكيات الأغلبية بناءً على ما جرى جمعه من بيانات، وسواء أدركنا ذلك أم لا، فإن علاقاتنا الجنسية بحسب آدشادي، سواء كانت خارج مؤسسة الزواج أو داخلها تحددها عوامل اقتصادية. وهنا نتحدث عن القرارات الفعلية التي يتخذها الأفراد، وليس ما يدعون أنهم يتصرفون على أساسها.
المصدر: ساسة بوست